arablog.org

أطفال اليمن : ثلاث برقيات إلى العالم !

61

لا تزال الكتابات المعنية بالأطفال ترسم في تلافيف رأسي خيالاتٍ أشبه ببطائق بريدية لطيفة مملؤةً بالألوان الزاهية و الكلمات المرحة , أتمنى لو باستطاعتي بعد كل هذه السنوات أن استشعر مجدداً تغريدة ” ريمي البندلي ” ذات طفولة ” : إحنا الربيع إحنا .. ورد الربيع إحنا .. إحنا فراشات صغار .. عم ترقص بين الأزهار ..الخ ”

تتذكرون ريمي البندلي ؟ .. لم تعد تغني ريمي ؛ ربما لنفس الأسباب التي لن يكون فيها هذا المقال بأي حال شبيهاً بالبطاقة البريدية الموسومة في خيالي أعلاه ..

لو صحّ لأطفال اليمن أن يبعثوا ببرقياتٍ إلى العالم , أكيدةٌ أنا أن أجمح الخيالات ( بما فيها ” التنقيبات ” خاصتي أدناه ) لن تصل إلى تصوّر مايمكن أن يقولوه وصفاً لأفعال الكبار التي أكلتْ من طفولتهم و شربت ..

برقية ( 1 ) ..أيها العالم : الفقر قميصٌ من نار !

مالم يبتسم القدر لهذا الطفل يوماً ما ؛ فالأصل أن الفقر والطفل اليمني توأمان متطابقان , يولدان معاً , يكبران معاً و غالباً يموتان معاً ..

و مالم يحالفه الحظ ليكون من بين الـ 35 بالمائة من أطفال الأسر متوسطة الحال في اليمن ( الفقراء بالمقاييس العالمية ) فالأصل أنه سيكون من بين الـ 65 بالمائة من أطفال العائلات الغارقة تحت جسر الفقر المدقع .. الحديث هنا عن بلدٍ أكثر من نصف سكانه ما دون سن الـ18 ..

يقول تقريرًٌ حديثٌ لليونسيف نشر قبل أشهر معدودة فقط أن حوالي 45% من الأطفال اليمنيين يعانون من سوء التغذية ؛ 17% منهم يعانون من سوء التغذية الحاد بينما يعاني 28 % من سوء تغذية متوسط الحدة .. ترتفع هذه النسبة لتشمل 3 أطفال من بين كل 4 في بعض المناطق الريفية .. تذيّل اليونسف التقرير بعبارة صادمة تفك أزرار هذا القميص عن جسد المأساة الضخم , ورد فيها : ” يتساوى معدل سوء التغذية الذي أوردته الدراسة مع المعدل الذي أورده مسح آخر جرى في جنوب السودان في بداية هذا العام وجذب اهتماماً إعلامياً لاكتشافه “أكثر الأماكن جوعاً على وجه الأرض” ..

يعلق جيرت كابيليري ممثل صندوق الطفولة التابع للأمم المتحدة ( اليونسيف ) على هذه الإحصاءات بقوله ” أنت تغامر بخلق مجموعة متزايدة من الصغار الذين سيتمردون ويتسمون بعنف بالغ و عواقب ذلك لن تكون مهمة بالنسبة لليمن فقط و إنما للمنطقة العربية و للعالم ككل ”

بالطبع ليس لـدى كابيليري كرامات استراق السمع , لكن الرجل الذي عمل في اليمن طويلاً يعلم أكثر من غيره أن هؤلاء الجوعى المسلوبي الطفولة هم أنفسهم من يشكلون حوالى 20 بالمائة من إجمالي نسبة العمالة في اليمن معظمهم يتم ضخهم من الأرياف إلى المدن بلا مأوى للتشغّل في مهن تعرضهم لكوارث ليس أقلّها التحرّش الجنسي..

و ربما أراد السيد جيرت أن يلفت انتباه المهتمين إلى أن ” بروليتاريا ” من نوع جديد تتخلّق في اليمن , اسمها هذه المرة ” بروليتاريا الأطفال ” .. لا أعلم إن كان كارل ماركس سيعوّل عليها كثيراً في تنظيراته الشهيرة عن هذه الطبقات التي أقتنع بها و آمن أنها ستحرر المجتمعات و تبني الاشتراكية بشكل أممي , لكن حدسي يخبرني أنه لم يكن ليفعل أبداً؛ ببساطة لأنها ليست إلا شكلاً آخر أكثر تراخياً من ” البروليتاريا الرثة ” التي يرى المفكرون الشيوعيون أنفسهم أنها متخلفة الوعي و من الصعب إكسابها الوعي البروليتاري المناضل ..

برقية ( 2 ) .. أيها العالم : عرائس الموت , نُغتصب بمباركة جماعية !

مرةً أخرى ؛ كشف تقريرٌ صدر مؤخراً عن مركز دراسات وأبحاث النوع الإجتماعي بجامعة صنعاء أن نحو 52 % من الفتيات اليمنيات تزوجن دون سن الخامسة عشرة خلال العامين الماضيين .. 70% منهم في المناطق الريفية .. في بعض هذه الحالات قد لا يتجاوز عمر الفتاة المتزوجة سبع أو ثمان سنوات لا بل قد تتسع الفجوة العمرية بين الزوجين لتستوعب أكثر من 50 سنةً أرضية ..

لم تترك منظمات العمل المدني و الحقوقي و الإنساني باباً إلاّ و طرقته في محاولات يائسة لإنقاذ هذه الطفولة المنتهكة باسم العُرف و الدين , و مثلهم فعل المعنيون من الأطباء في محاولةٍ لاستخلاص قانون يحدد سن الزواج أو بالأحرى إعادة إحياءٍ لمادةٍ شملها قانون الأحوال الشخصية لعام 1992 الذي يحدد سن الزواج للفتيات اليمنيات بـ 15 عاماً كحدٍ أدنى , القانون الذي ظل سارياً حتى 1998 ليتم سحب المادة بعدها بموجب تعديل لا نعلم يصب في مصلحة مَن أو ماذا ..

و إذا علمنا أن من يلتحون بالتغيير و دولة الكرامات و الحقوق و الإنسانية اليوم هم أنفسهم من التحوا يوماً بحرب شعواء ضد كل الأصوات المنادية بالحياة لفتياتٍ سلبتْ الأعراف و التقاليد البائدة و التزمت المقيت كل كرامتهن و طفولتهن :

** فعن أي شرعية يتحدث الراعي مثلاً و مجلس نوابه الذي شرّع البلد للنهب و النصب و الفساد و مضى في طريق التشريع لعمليات الإغتصاب المقونن تحت غطاء الدين الذي بالتأكيد أنه بريء تماماً مما من شأنه أن يترك ثلثي نساء اليمن يرزحن تحت وطأة الصدمة النفسية , الإكتئاب و الأمية , فهؤلاء الصغيرات يتركن الدراسة للزواج الذي لم تكن قد عرفت هذه العروس كيف تتهجئ كلمته من الأساس ؟؟ ..

** و عن أي تغيير يتحدث الزنداني مثلاً و هيئة ” الفضيلة ” التي تركت البلد تتهاوى في رذائل اقتصادية و سياسية و إنسانية و تفرّغت تماماً كل هذا الوقت لحجب قوانين كان من شأنها أن تحفظ حياة خمسة الآف فتاة تقضي سنوياً في اليمن بسبب الحمل المبكر للقاصرات ؟.. تحتل اليمن المرتبة الأولى في العالم هنا بالمناسبة..

برقية ( 3 ) .. أيها العالم : لاشيء يمكن إبداعه من اللاشيء !

لا يوجد مركز حكومي واحد متخصص في رعاية الأطفال الموهوبين في اليمن , لا ملاعب , لا مسارح , لا نوادي , لا مكتبات ولا حتى أي توجه جاد في المدارس لضخ الحس الإبداعي لدى الأطفال ..في معظم البيوت اليمنية توجد فقط مراكز متخصصة لرعاية مجالس القات و التفرطة ..

طبعاً قد يعتقد البعض أنه من البذخ التحدث عن الإبداع الطفولي في بلد يصدّر سنوياً 50 الفاً من فلذات كبده و خامات تنميته إلى الجارة السعودية ليتم الإتجار بهم بغرض العمالة , التسوّل , خدمات المنازل و سرقة الأعضاء ..

لاشك أن هذا الحديث يعدً قشّة في كومة المآسي التي يعاني منها الطفل اليمني , لكن المواهب التي التي تفجرت في ميادين التغيير مع الأيام الأولى لثورة الاعتصامات الشعبية السلمية تلك التي بدأها الحراك الجنوبي السلمي في 2007 ، ثم ثورة التغيير شمالا في 2011 جعلتنا نعيد النظر في كم الطاقات المكبوتة و مدى أهميتها في إعادة هيكلة جيل يمكنه أن يذيب جليد الماضي بكل بؤسه ..

أخيراً وجد أطفال الشوارع بيوتاً , فقد تحوّلت الإعتصامات إلى بيوتهم التي يزاحمهم فيها ملايين الحالمين بالمستقبل الأفضل , عشق الأطفال الثورة و سقوها من فيض إبداعاتهم , لكن ما إن تحوّل المشهد عن سلميته و قدسية أهدافه حتى عادت هذه الفراشات الى شرانقها و امتلأت بعدها الشاشات بالعويل ..
سرعان ما اختلط هذا الدور الذي كان يشارك فيه الأطفال بنوع آخر من التكسب غير الشرعي للثورة ، امتلأت القنوات بمشاهد يندى لها الجبين ،

طفلة فقدت أباها تبكيه بألم يحق لها أن تتعامل معه بهدوء بعيداً عن فزع مواجهة الحشود .. طفل فقد عينيه , تحاصره العدسات و لا يتاح له حتى أن يبكيهما .. أطفال يضعون عصابات على رؤسهم كتب عليها عبارة ” أنا الشهيد القادم ” يتم ترويجها بشكل كبير جدا .. أم أمام طفلها -الذي لم تراعى أقل حقوقه في اخفاء هويته أو تغطية وجهة –تروي تفاصيل ما قالت أنه اغتصاب من قبل جنود النظام .. طفل شهيد هنا.. طفلة شهيدة هناك .. الخ

كان بامكان الثورة أن تنجح و تكون أكثر تأثيراً دون الحاجة لأن ترتدي جلباب الثأر النفسي هذا , بإمكانها أن تنجح دون أن نكرّس في نفسيات هؤلاء الأطفال أنّ أفضل ما يمكنهم فعله هو ” الموت ” ..

حتى يدرك الجميع أنّ قوام الطفولة أطرى من أن تتحمل مسامير السياسة الصدئة التي يصر البعض على دقّها في أرواح أطفالنا ؛ ليعلقوا عليها لوحات كتب عليها بالخط العريض : للكبار فقط ، سيكون أمامنا الطريق الطويل لإعادة الطفولة إلى ملايين الأطفال من فاقديها فقط لأنهم يحملون الجنسية اليمنية !

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *