arablog.org

سائق تاكسي شارد

NG-Blog-Taxi.Ben-Fredericson-xjrlokix-300x300

ركبتُ مع سائق تاكسي أقلني ذات مرة من إحدى شوارع القاهرة.. بدا شاردًا جدًا، عجوزٌ رثٌ، لم يسألني عن وجهتي. أخبرته بها بينما أنا أغلق الباب.. ولم يجب.

بعد دقائق من الصمت الرهيب على غير عادة سائقي التكاسي في القاهرة، جعلتُ أطلب منه التوقّف لأني وصلت لشارعي ولم يجب أيضًا.
صرختُ به : بس عندك .. هنا خلاص.. إنت سامعني؟
و لا مجيب.
نكزته في كتفه.. يا حاج إصحَ لو سمحت نزلني هنا، انتبه وأشاح بوجهه شبه الشمعي نحوي، بلا أي تعابير هزّ برأسه وتوقف..
أعطيته النقود ولم يجد فكّة ليبادلني بها، ولم يفكر حتى في طلبها، ردّ لي ما أعطيته قائلًا : مفيش فكة، هاتي أي حاجة!
كان في جيبي 2 جنية والمشوار سجل 5 جنيهات في العدّاد، قلتُ له: مفيش غير اثنين جنية بس، قال: هاتي ..

استغربتُ وأصرّيتُ على النزول والبحث عن فكّة إنصافًا للرجل المحتاج.

كان الفكهاني أقرب شخص لي، طلبتُ منه أن يغيّر لي نقودي، وما إن لمح التاكسي ينتظرني حتى انفرجت كل أساريره، وراح يلف جلبابه الصعيدي حول جسده ويهلل: “يا ألف نهار أبيض يا ألف نهار مفترج، ده إحنا زارنا النبي”.

لم يبادله الرجل بأي شغف.. بل رمقه بنظرة باردة، وإكتفى بالتلويح له بظهر كفه، أعطيتُه حقه ومضى في سبيله..

أخذتُ أعبّر عن إستغرابي من تحجّر الرجل وشروده، إلى أن أخبرني العم محمد الفكهاني بقصته فزادت حيرتي.

قال إنه واحد من أغنى أثرياء الرجال “بلدياته”، ترك خلفه كل شيء .. أراض زراعية وتجارة وإرث لعائلة شهيرة، و جاء إلى القاهرة باحثًا عن شيء لا يعلمه إلاّ الله، أو ربما هاربًا من شيء مجهول، ظنّ الناس أنه مجنون، وبدأت الإشاعات تحوم حوله، لكن العم محمد يقسم أن الرجل من أحكم الناس وأعقلهم ..

لا أعرف إن كان الرجل يمارس شغفًا في التمرد على ماهيته الجاهزة التي وجد نفسه عليها، أو ربما أنه أراد أن يعيد اكتشاف ذاته التي يمكنه صناعتها، لا أعرف إن كان سعيدًا بهذا القدر من الحياة، أم أنه نادم على تهوّره في لحظة لم يقدر على مراجعتها لينتهى به المطاف كسائق تاكسي شارد هكذا، بلا عائلة و لا جاه، و رغم كل ثروته لا بد أنه ينام الآن في نزل لأشباه المشردين في وسط البلد.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *