arablog.org

يبيعون السعادة بلا مقابل (1): قصة العم مجيدي!

كان صديقي مازن شريف قد وضع على صفحته التي يديرها على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك “عدن أجين”، صورة الحمائم التي تتجمع في باحة مطار عدن الدولي حيث يعمل، كتب عليها تعليقًا بسيطًا قال:

” ننبهر جداً عند مشاهدة صور الحمام الزاجل يفترش أراضي باريس، أو اسطنبول، أو مكة المكرمة وغيرها من المدن الأخرى، ننبهر ونستغرب، مع إن الأمر بسيط، الطيور لم تفترش الأرض لجمالها، بل لأنّ في تلك الأرض أناسٌ رحماء، ينثرون القمح لأجل الطيور، جمال المدن الحقيقي يكمن في بشرها. الصورة تتكرر بشكل يومي في مطار عدن، لأن هناك رجل رحيم ينثر القمح كل يوم لأجل الطيور.”

10847666_689557564494429_1209704505549504553_o

علقت هذه الصورة بالكلمات الرقيقة أعلاه في رأسي ولم تبارحه ليومين، وضعتها في صفحتي أنا أيضًا، لكن كل ما أردته وقتها هو أن أعرف من يكون هذا الرجل الرحيم وما دوافعه الحقيقية؟ أهو رجل مقتدر أم فقير؟ أهي هوايته؟ أهو شغفه؟ أهو عمله ؟ أيعقل أن درويش و هو يرمي برائعته “فكر بغيرك” في سلة الأدب العربي الكبيرة كان يقصده ؟ أتراه كان يعنيه عندما قال:

وأنتَ تُعِدُّ فطورك، فكِّر بغيركَ
لا تَنْسَ قوتَ الحمام
وأنتَ تخوضُ حروبكَ، فكِّر بغيركَ
لا تنس مَنْ يطلبون السلام

كان الأمر مهمًا بالنسبة لي، أن تكتشف بأنه في أرض الخراب لايزال هناك متسع للإنسان الممتلئ بالملاحة، أعجوبة الصمود والتآلف مع الخوف والفقر والمعاناة، الإنسان الطيب؛ خليل الرحمة، وقرين البذل ..ليس أقرب لهذه الصفات من العم ” مجيدي “..
لا تعرفونه أيضًا ؟!
حسنًا.. دعوني أحدثكم !
طلبت من مازن أن يأتيني بخبر هذا الرجل، أن يعرف قصته و يصوره لي لأني رغبت بشدة أن أرى وجهه وأتفرّس معالمه، وهكذا فعل صديقي العزيز، وصلتني الصور بعد خمسة أيام، لم تكن المفاجأة أن يشبه العم مجيدي ” شيوبة “عدن جميعهم، الذين نعرفهم بسيماهم؛ بكوافيهم الزنجبارية المائزة، “فوطهم” البيضاء كبياض أروحهم، وملامحهم الساكنة كسكون التواهي، الخامدة كبراكين كريتر، الوقورة كشوارع المعلا، الوديعة كأزقة لشيخ عثمان، كان العم مجيدي عدنيا أصيلًا ، محبوبًا كما يجب، بسيطًا كما تستدعي هذه الحياة !
.
IMG_5115

يعيش العم مجيدي في الشيخ عثمان في الشمال الشرقي لمدينة عدن، لكن قصته التي تتكرر فصولها منذ أعوام طويلة، تحدث في خور مكسر، في ساحة المطار بالتحديد، مطار عدن الدولي إن صح القول، الزمن : بعد صلاة الفجر بنصف ساعة؛ كل يوم .. الأبطال : حمائم عدن التي تحوم من كل فج فور سماعها لصوت العم مجيدي يصيح ” الأياااام “، تميزه الحمائم من على بعد وترتقب وصوله كل يوم في نفس الوقت، تحبه كما يبدو، يقوم هو بمبادلتها الحب بكيلوجرام من القمح يوميًا، ينثره لها في الساحة الأمامية للمطار، تتجمع في منظر بديع لتأكل، ثم ينصرف هو لبيع الجرائد للناس في ساحة الوصول والمغادرة ” جريدة الأيام و عدن الغد بالتحديد” .. يقوم بهذا الأمر كل يوم منذ سنوات .. لم تلحظه قط فلاشات الكاميرات ولا تقارير الأخبار قبل يومنا هذا، ذلك أن العم مجيدي ليس السياسي المرموق الذي تحيل أجهزته الإعلامية كل زفراته إلى أخبار، و ليس الصحفي المدعي الذي يوثق لكل هذيان بصورة ومانشيت، إنه ببساطة رجل الحكايات التي لا تحدث لتروى، لأنها حكايا الخير، الخير الذي لا مراء فيه
.
IMG_5156

– ليش تنثر القمح يا عم مجيدي ؟
– منشان يأكلوا الحمام

– ليش تأكلهم ؟

– ثواب كبير عند ربنا

– بس منشان الأجر ؟
– الرحمة بالحيوان تنجي من المصائب

-لو يوم ما قدرت تجي كيف تعمل ؟
– لي أربع سنين و لا قطعت عادتي معاهم يوم، أول ما أنزل من الباص بالجولة يعرفونا و يحوموا بالجو .

-و لا قطعت يوم حتى ؟
– برمضان ما أجي .. أطرح جونية بُر ( صرّة من القمح ) عند البوفيه و أأمّن الشباب كل يوم يرشّوا القمح للحمام
– الله يعطيك الصحة
– يعافيك !

العم مجيدي بكلماته البسيطة وفلسفته النقية التي لا تشوبها لوثة التنطع والإدعاء يتركنا أمام أنفسنا نعترك في أصعب الأسئلة، إن كان هذا الرجل وهو من يتوكأ سنوات عمره ووهن أيامه لا يتواني ولا ليوم عن مسئولياته ” الطوعية” تجاه الحمام، فكيف بنا نحن من نتورّع عن عديد مسئولياتنا القهرية، تجاه أنفسنا ومجتمعاتنا وأوطاننا ..

المجد لمن يبيعون السعادة بلا مقابل !

IMG_5111

IMG_5142

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *