arablog.org

الجنوبيون في مواجهة “حساسية الجهات” !

صباحك

أمل دنقل أشهر مثقفي مصر القوميين وأبدع شعرائها المعاصرين؛ حينما أراد أن يكتب قصيدة يعرّف فيها نفسه أسماها “الجنوبي”، كانت آخر قصائده ومسك ختامها، غرس معها نفسه في صعيد مصر انتماءً للجغرافيا المجيدة.
يقول:
فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه

يشتهي أن يلاقي اثنتين:

الحقيقة و الأوجه الغائبة.

بعد أن مات دنقل متدثرًا جنوبيته، رثاه درويش، ومحمود درويش هو شمعة الشعر العربي الحديث وأحد أشرق وجوه الثقافة العربية، قدم لدنقل مرثية أسماها “بيت الجنوبي”، نادى صديقه بالصفة التي يحبها وزاد فيها من محبته :

والجنوبيّ يحفظ شعر الصعاليك
عن ظهر قلب
ويشبههم في سليقتهم وارتجال المدى
لا ( هناك ) له، لا ( هنا )
لا عناوين للفوضويّ
ولا مشجب للكلام
يقول :النظام
كاحتكام الصدى للصدى.

هؤلاء مثقفو العرب، أما نحن نعرف مسبقًا أن هناك رصيفًا من النعوت سترسو عليه سفينة كلماتك فور إضافة أي وصف لـ “جنوبي ” إليها !

نتلقى سيولًا من الشتائم يوميًا لأننا نتحدث بصفتنا الجنوبية ( كانتماء جغرافي وإنساني وسياسي)، صدقوني أنا لست أتأذى شخصيًا من هذا المذهب التعبيري التنفيسي، لكن إن كان ولابد من الشتائم فتعلم كيف تشتم صديقيصديقتي، لأن الجهل أقسى من الشتائم على ضميرك وضمير من تشتمه.

كان الرجل التنويري لطفي السيد في بداية عشرينيات القرن يجهز حملة للترشح النيابي، وهو رجل جامعي و مثقف معروف حينها، نزل أمامه في الانتخابات أمي بمال وجاه؛ فأشاع بين الناس أن لطفي السيد رجل ديموقراطي، وكان الناس البسطاء يستعجبون الكلمة الغريبة، فأخبرهم الخصم اللدود بأن الديموقراطية تعني أن تتزوج المرأة أربعة كما يفعل الرجل، فلما أن تسربت (هذه الشتيمة ) الخبيثة بين الناس صارحوا بها السيد في إحدى لقاءاته ، سأله أحدهم: هو صحيح إنت ديمقراطي ؟ فما كان من السيد إلا أن اعترف بذنبه الخطير ، آه طبعًا ! فخسر الانتخابات من فوره ، و جعل الناس يتشاتمون بها : ” روح يا ديموقراطي” !

وبما أن أكثر شتيمة تلقيتها خلال الشهر الماضي هي العنصرية لأني أؤيد حق الجنوب في الانفصال عن الشمال كاستحقاق قانوني وسياسي وحقوقي.. سأبكي ضحكًا وأنا أتذكر لطفي السيد و أرسل له التحايا بعد قرن من الزمن وأخبره بأننا لازلنا في نفس الزمن وأن هناك أناس ينعتون من يريد أن يرفع المظلومية ويعيد الحق وينتصر لحرية الشعوب في تقرير مصائرها بالعنصرية، سيتعجب روسو وكانت وهيجل قليلًا وسيشاركني السيد اللطفي بكائي الضاحك، ويطلق صرخته البعيدة : الموت للجهل، الموت للمصطلحات المعووجة ، النصر لجوجل وويكيبيديا. على أحسن تقدير.

وضعت في ظهر كتابي “جدار بردين” تعريفًا لي كتبت فيه : سناء مبارك كاتبة وطبيبة من عدن -جنوب اليمن، اعتبرتُ هذا من ناحيتي احترامًا للجنسية التي أحملها وتبجيلًا للجهة والجغرافيا التي أنتمي لها؛ جن جنون مثقفو الـ”نص خمدة”، كتب أحدهم ينعتني بالدخيلة على عالم الثقافة وأبدى استغرابه أن تنشر لي دار عريقة. ذهب استغرابه وبقي الكتاب يحصد النجاحات.

أما أنا استقبلتُ هذا الوصف بالحبور الإعتيادي، كما أتلقى الآن باقي الأوصاف التي يمكنها أن تُخلع علينا بحسب الحالة عدا أن تكون جنوبيًا.

نحن دواعش وكفار وتكفيريون وبقايا أخدام وهنود وإنفصاليون وفي أحسن الأحوال عنصريين وحراكيش. وعلى امتداد التاريخ التوحدي كان هناك محاولات مضنية ومؤسفة لحذف الجنوب من أي فعل أو صفة تخصه.

الحراك الجنوبي عانى خلال فترة وجوده من كافة أنواع التدليس والتهجين والإضافة والحذف، اعتقادًا أنه بالتشويش قد تُعدم الحقائق، أي إنه عندما ينعت الحراك بالانفصالي، الحراك الحوثي، الحراك العفاشي، الحراك الايراني؛ لن يعود الحراك الجنوبي.. ماحدث التالي : ذهبت الصفات وبقي الحراك الجنوبي!

وها هي المقاومة الجنوبية تنال نصيبها من “حساسية الجهات” وتوصف وستوصف بكافة أنواع الصفات والإبتداعات ..
ستذهب كل هذه الصفات وسيبقى الجنوب بدلالته الجهوية، الانتمائية، لأن هذا ببساطة عهد الحقيقة في مواجهة أي زيف.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *