arablog.org

( بكاء رجل )

man-flu

كنتُ اليوم في مكتبة الدراسات العليا في الكلية، أخذتُ ركنًا قصّيًا وجلستُ أفتش فيه عن أبحاث تخص موضوع رسالتي للماجستير. أجد نفسي مؤخرًا أركز أكثر في القراءة والكتابة خارج نطاق الجدران الصامتة لغرفتي، غدوتُ أكثر إنجازًا في “الدوشة”، عكس كل البشر، نتغير مع مرور الوقت حتى في أصغر تفاصيلنا، يحدث هذا رغم أني أقضي معظم الوقت في التحديق العدمي خارجًا وملاحظة كل التفاصيل التي تمر أمام عيني. أجدها متعة بالغة!

كان في مقابلي ذلك الرجل الضخم، المهندم جدًا، ببدلته الرمادية ونظافته الفائقة. لم يكن به شيء ملفت بداية الأمر سوى هذا، لفتتني الأكثر سيدة وقورة بجانبه، لبست ألوان الطيف كلها ولفت غطاء رأسها بطريقة مبالغ فيها، تدلت من أذنيها أقراط ضخمة و كشفت عن عنقها الممسود، فلم يتبق من حجابها إلا ما غطى نصف رأسها ككوفية يهودي ،

كان الكل يعمل في هدوء شديد ، يدخل الناس على عجالة و يختارون مواقعهم ، و يبدأون في الإنشغال العميق ، كنت أفعل نفس الشيء ، أفيق بين الفينة و الفينة للتحديق العدمي و أعود ، ثلاثة أرباع الموجودين يرتدون نظارات و تعلو أكتافهم ” حدبة ” تستطيع ما إن تراها أن تميز أن من أمامك ” طبيب ” قضى جل عمره مثنيًا فوق كتاب ، سرٌ صغيرٌ لو عرفه فيكتور هوجو لنقل أحداث روايته الخالدة من كاتدرائية نوتردام إلى كلية الطب !

تفقّدت الرجل و السيدة أمامي بغير قصد ، فوجدت أن الدموع بدأت تنهمر من عينيه و غدا أنفه أشبه ببندورة صغيرة ، أكان يبكي ؟!

رجل يبكي في مكان عام و في حضرة امرأة غير مهتمة ، أمر لا يحدث كل يوم ..

أمعنت النظر و هالني هدوء من بجانبه ، الرجل يبكي و هي تعمل دون أي تعاطف ، رحت اتساءل أي نوع من الزميلات ، الرفيقات ، الشريكات هي ؟

أما هو فلم يبد عليه الانزعاج من موقفها ، انشغاله ببحر عينه كان أكبر ، مال نحوها يحدثها و مدت له بمنديل أخرجته من شنطتها ، راح يعصر عينيه و يعود للعمل ماسكًا على مقدمة رأسه في حزن عميق ،

مع كل ماهو فيه يستمر في القراءة ، علا الوهن ملامحه حينما رد على مكالمة تلقاها ختمها بابتسامة .. أخذت أتساءل هذه المرة :أي نوع من البكاء هذا ؟ ،

بكاء رجل متألم حديثًا أفقده الألم فرط الشعور أم بكاء مزمن فقد مرارته ،شهيقه، و زفيره و راح يسكب اللوعة بسكونٍ مميتٍ ،

“يبكي الرجل مرة واحدة في عمره تكون دموعه حينها من دم “.. هذا ما قاله بيكسفيلد و اعتقدته معه دائمًا ، كانت دهشتي كبيرة إذ يبدو أن الرجل أمامي أسقط هذه النظرية التي آمنت طويلًا بها بلمح بصر ، إنه الرجل صاحب البكاء الغزيز ،الهادئ الغريب .

ظل هكذا يسكب العبرات بصمت ، و أنا أنقب في رأسي عن كل أسباب بكاء الرجال و كل فلسفات الحكماء حولها ، فلم أجد شيئًا يتطابق مع ماهو أمامي ، حقًا

انتفض الاثنان استعدادًا للخروج ، لملما الأوراق أمامها ، و شعرت بالفضول إذ سيغادران قبل أن أعرف سر بكائه . اقتربا فبت أستطيع رؤيتهما و سماعهما بوضوح ،

هو بصوت أخنف بالكاد يسمع : البرد ده حاجة بشعة .
هي : معليش ، خذلك حاجة دافية و استريّح .

أنا : اللعنة !!

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *