arablog.org

أباتشي !

أباتشي-أرشيفية

#أباتشي

لم ينم سكان حارة (المنصورين) في ضواحي عدن الشرقية طوال الليل، كان أزيز القنابل يُسمع صداه في الصدور، أجواف النساء كادت تدوي مع كل انفجار، الأطفال يرتعدون كأعمدة النور المنعكسة بريبة على الجدران المعتمة، خيوط النور وتلك الظلال التي صنعتها رؤوس القاطنين الفزعين استلقت بِوَجَلٍ على الحيطان؛ كانتْ تشي بكهولة الشمعة وعهدها في الذوبان المديد.

وحدها الحاجة “نبيهة” أرملة الفقيد “مرزوق” لم تكن في اللحظة قط.. لاخوفًا ولا رجاءً؛ إذ انسحبت تمامًا منذ آخر مطالعة لها للأخبار تفكّر في الدبّابة التي كانت تقصف البيوت القريبة من بيتها وفوتته مصادفةً عديد المرات. كان رأسها لايزال في المجلس الذي عقد قبل البارحة حيث كان سكّان الحارة يتجاذبون أطراف الحديث، واختزنت ذاكرة الحاجة نبيهة كل التفاصيل التي قالها العقيد المسرّح منذ عام 94م؛ والحاصل على دكتوراة في التخطيط العسكري من الاتحاد السوفييتي سابقًا “ارسلان غانم” ، جعلتْ الحاجة الطيبة تكثف كل تلك الحكاوى كغيم أمطر ليلها شرودًا وهمًّا.

كان السيد أرسلان قد غذى “شيوبة” الحارة باستراتيجيات الحرب كلها في جلسة واحدة، وجعل على نحو خاص يعدد مناقب “الأباتشي” وفعاليتها في ضرب الأهداف القريبة والواضحة كالدبّابات، حتى سالتْ الدهشة في نفوس الحاضرين ومضت فيهم إلى غير مَصَب.
– هذي الملعونة تقدر “تلقط” الأوغاد تلقيط ..ليش ماتجيش تضرب الحوتيين الآن؟ صاحت الحاجة نبيهة.
– يا حاجة الأباتشي ما تطيرش أكثر من أربع ساعات، مروحيات التحالف تشتي مطار قريب تضرب منه.. من فين نجيب لها مطار أنا فدالك ؟
وجم الكل ومعهم الحاجة نبيهة؛ كأنما على رؤوسهم الطير!
غادرت المسكينة الجمع ممسوسة بلعنة الأباتشي وبحسرتها لانهائية الحد!

ما إن غرستْ الشمس نفسها في سماء اليوم التالي؛ حتى لملمتْ الحاجة نبيهة نفسها في شيذرها وأخرجتْ “تحويشة” حياتها من تحت “مشمّع” الدارة حيث مكمنها السرّي واتجهت إلى السوق، عادت من هناك وفي معيتها نفر من “الشقاة”، أخذت تصف لهم بحماس ما سيقومون بعمله، تفرّق العمّال لمبتغاهم.. وشاعت في وجه الحاجة بشاشة الرضا ممزوجةً بما رُدم في روحها من فخر.

اطمأنت الحاجة نبيهة على سير العمل في منزلها مع أفول قيظ الظهيرة؛ وشعرت بدعّة الليل ونسائمه تموج في جسدها الهزيل ، تذكرتْ فجأة ورق المقوّى الذي طافت عليه كل مكتبات الشيخ عثمان ولم تجد أثره إلاّ بشق الأنفس؛ كان أن دلها الناس على بيت صاحب المكتبة المغلقة في آخر الشارع.
– الدنيا حرب ياحجة ايش تشتي بالورق؟ قال صاحب المكتبة متعجبًا من طلبها.
لكن الحاجة نبيهة بدا أنها قد عقدت الحزم، وذهبت تلح وتلح دون هوادة.. إلى أن فتح لها المكتبة المغلقة وباعها الورق ومجموعة أقلام غليظة ذات ألوان فاقعة أصرّت عليها هي أيضًا.

تركتْ العمّال في أمرهم واتجهت بهذه العدّة إلى منزل جارها عبدالناصر، كان عبدالناصر رسامًا وخطاطًا في زمانه، حاصلٌ على الماجستير في الفنون الجميلة من تشيكوسلوفاكيا، لكنه الآن يملك ويدير بقالة صغيرة في ركن الحارة القصي.

خطّ عبدالناصر للحاجة نبيهة الجملة التي طلبتها على ورق المقوى؛ مقهقهًا من غرابة الحزم الذي كان يلقيه مظهرها على خاطره، خاصة طريقتها في تفنيد التفاصيل وإملاءاتها التي لم تنتهِ بسهولة، ظل عبدالناصر يمضي معها بتوئدة وصبر؛ متذكرًا أنَاتَها معهم صغارًا ويدها الودودة التي امتدتْ لهم بـ “الخمير” اللذيذ كل صباح. فكان لها ما أرادتْ دون فِصال !

بعد مفاوضات عديدة وتعديلات متعددة كانت الصيغة المرضية للحاجة نبيهة ماثلة أمامها ، طوت الورق المقوى بحبور ولم تستطع ان تطوي معه ابتسامتها التي انفرجت على جانبي وجهها المثخن بالسنين .. كان الليل قد شارف على الانتصاف عندما فرغ العمّال من تحويل سقف بيت الحاجة نبيهة إلى مايشبه “الرصدة” بعد أن رمموا كل النتوءات، سووا أطراف المساحات ببعضها، صبوا عليها القار، وتركوها لتجف طوال الليل.

في اليوم التالي كان باستطاعة الحاجة أن تعبّ هواء عدن كله زفرةً واحدةً؛ زهوًا بإنجازها، لم يكن ينقص المنظر إلاّ بعض الخطوط البيضاء التي شرعت تنثرها من مسحوق” النورة” الأبيض فوق السواد المصمت ليتحول سقفها دون أدنى مواربة إلى:
مدرج مطار “الأباتشي” الجديد.

لم يتبق أمام الحاجة نبيهة إلاّ أن تدل الطائرات المحاربة على مدرجها المُبتَكَر؛ فنصبت على حافة المدرج عمودًا طويلًا، قامته متران على الأرجح، وضعت على رأسه لوحًا من الخشب ألصقت فيه مخطوطة عبدالناصر المرسومة بعناية فائقة؛ هيئة سهم كبير تشير دالته إلى جملة من ثلاث كلمات:
” إندكه مطار الأباتشي” .

شعرت الحاجة نبيهة بخيبة الأمل؛ اللون الفسفوري الذي أصرت عليه بدا باهتًا في وضح النهار، ما استدعاها الركون إلى الجدار القريب أكثر من سبع ساعات تستجلي اللحظات الأولى لظهور اللون كما تخيلته كما في بزات شرطة المرور التي تضيء خطوطها في العتمة.. أيام أن كان في عدن شرطة !

ظهر اللون أخيرًا..مضت الساعات ثقيلة مليئة بالرهبة والخوف، القنابل همّت في شق صمت الليل مرة تلو الأخرى ، ولا طائرات أباتشي تحلق بالمقربة..
مدرج الحاجة نبيهة خالٍ لليوم الرابع على التوالي !

قصة قصيرة من وحي الحرب .

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *